
نواذيبو تنهض من جديد: زيارة رئاسية تُدشّن المستقبل
نواذيبو تنهض من جديد: زيارة رئاسية تُدشّن المستقبل
في خضم التحديات التنموية والرهانات الاستراتيجية التي تواجهها بلادنا، جاءت زيارة فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، إلى مدينة نواذيبو يوم 27 يوليو 2025، لتشكل نقطة تحول حقيقية في مسار تطوير العاصمة الاقتصادية، وتحويلها إلى قطب صناعي ولوجستي ورقمي متكامل.
وقد تميزت هذه الزيارة بسلسلة من التدشينات النوعية ووضع حجر الأساس لمشاريع استراتيجية تمس قطاعات حيوية، وتترجم الرؤية التنموية الطموحة التي تتبناها الحكومة.
⸻
شبكة مياه حديثة… استقرار ينهي سنوات العطش
من أبرز المشاريع التي دُشنت خلال الزيارة، مشروع تعزيز شبكة المياه الصالحة للشرب، وهو مشروع ظل حلمًا عصيًا على التحقق لعقود، في مدينة عرفت بجفاف حنفياتها وتذبذب مصادرها المائية. واليوم، وبفضل هذا المشروع، تدخل نواذيبو مرحلة جديدة من الاستقرار المائي، أساس العيش الكريم والتنمية المستدامة.
⸻
تثمين الثروة البحرية… مشروع صناعي واعد في قلب المدينة
في 28 يوليو 2025، أطلق فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني مشروع إنشاء المجمع الصناعي “سمك” لتحويل وتثمين أسماك السطح الصغيرة، في خطوة تمثل بداية فعلية نحو استثمار القيمة المضافة في المنتجات السمكية بدلًا من تصديرها في شكلها الخام. هذه المقاربة الجديدة تُشكّل نقلة نوعية في استراتيجية البلاد البحرية، حيث من المنتظر أن تساهم في خلق مئات فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، وتعزيز مساهمة القطاع في الناتج المحلي وزيادة الإيرادات العامة من العملة الصعبة.
يقع المجمع ضمن المنطقة الصناعية المينائية، وتبلغ مساحته حوالي 1500 متر مربع، بتكلفة استثمار تقدر بـ28 مليون دولار. المشروع يتمتع بطاقة تشغيل سنوية تصل إلى 100 ألف طن، وقدرة يومية لمعالجة 400 طن من الأسماك، مع سعة تخزين تصل إلى 10 آلاف طن. ويركّز على أسماك السطح الصغيرة مثل الماكريل والسردين والإسقمري الإفريقي، بهدف تجهيزها وتصديرها بمنتجات محوّلة تحمل طابع الجودة والقيمة.
ويمثل هذا المشروع حجر الزاوية في رؤية التحول من اقتصاد ريعي قائم على تصدير المواد الخام إلى اقتصاد صناعي منتج ومتنوع، يقوم على التشغيل والتثمين والتكامل بين حلقات القطاع البحري.
⸻
البنية التحتية البحرية… تأهيل يعيد التموضع
ميناء نواذيبو ظل لسنوات يعاني من تهالك الأرصفة وغياب التجهيزات الحديثة. واليوم، يشهد بداية نهضة جديدة بوضع حجر الأساس لمشروع إعادة تأهيل وتوسعة الرصيف التجاري الرئيسي، مما سيمكنه من استقبال السفن الكبيرة ومضاعفة الطاقة الاستيعابية.
هذا المشروع ليس فقط استجابة لحاجة لوجستية، بل خطوة إستراتيجية لتحويل نواذيبو إلى ميناء إقليمي تنافسي يخدم بلدان الساحل الإفريقي غير الساحلية (مالي، النيجر، بوركينا فاسو…) ويضع موريتانيا على خارطة المبادلات الكبرى.
⸻
رقمنة الوطن… من الأطلسي إلى العالم
في عصر البيانات والتكنولوجيا، لا يمكن لأي دولة أن تحقق طفرة اقتصادية دون امتلاك بنية رقمية قوية. ومن هذا المنطلق، أُطلق مشروع ربط موريتانيا بالكابل البحري الدولي “EllaLink” الذي يصل بين أوروبا وأمريكا اللاتينية مرورًا بالسواحل الإفريقية.
هذا الربط سيوفر إنترنت عالي السرعة، بتكلفة أقل وجودة أعلى، وسيعزز الأمن السيبراني من خلال تنويع منافذ الاتصال وتقليل الاعتماد على مسارات محدودة.
⸻
شباب رقميون… من التعليم إلى الإنتاج
ولهذا، جاءت خطوة إنشاء مدرسة التكنولوجيا الحديثة والمعلومات والاتصال ENTIC، كمحطة أساسية لإعداد جيل جديد من الموريتانيين يتقن لغات المستقبل: البرمجة، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، تحليل البيانات.
المدرسة ستشكل نواة حقيقية لاقتصاد المعرفة، وستفتح أمام الشباب آفاقًا للتوظيف، سواء داخل البلاد أو عبر أسواق العمل الرقمية العالمية.
⸻
رؤية تنموية متكاملة
ما يجمع هذه المشاريع الخمسة ليس فقط أنها كبيرة الحجم أو تمس قطاعات مختلفة، بل إنها تُجسد رؤية متكاملة للتنمية:
بنية تحتية مائية، منشآت صناعية، مرافق مينائية، ربط رقمي، ومؤسسات تعليمية تبني الإنسان الموريتاني الجديد.
⸻
رسالة أمل وتأكيد على الإرادة
ما يُميز هذه الزيارة الرئاسية، ليس فقط حجم المشاريع أو تنوعها، بل الطابع الاستراتيجي العميق الذي يُعبر عن إدراك القيادة لأهمية تحويل نواذيبو من مجرد منفذ بحري إلى رافعة اقتصادية وطنية.
وقد حملت هذه الزيارة رسالة واضحة للمواطنين: أن عهد التأجيل والتسويف قد انتهى، وأن المشاريع لم تعد مجرد وعود انتخابية، بل أفعال ملموسة تُنجز في الميدان.
وبوصفي أحد أبناء مدينة نواذيبو، الذين عايشوا تحولات المدينة خلال العقود الماضية، أستطيع أن أؤكد أن ما شهدناه مؤخرًا من مشاريع وتدشينات لم يكن مجرد وعود سياسية عابرة، بل هو تجسيد فعلي لتعهدات تُنفذ على أرض الواقع.
لقد تابعت عن كثب كيف بدأت الملامح تتغير: طرق تُعبد، بنى تحتية تُنشأ، وقطاعات كانت راكدة تبدأ في الحركة.
إنها ليست فقط مشاريع رسمية تُدشَّن، بل هي بارقة أمل جديدة لأهل المدينة، وتأكيد على أن الدولة بدأت تُنزل العدالة الجغرافية من مستوى الخطاب إلى حيز التطبيق.
⸻
خاتمة
إن تدشينات نواذيبو ليست لحظة احتفالية عابرة، بل محطة تأسيسية لتحول اقتصادي واجتماعي كبير.
هي إعلان عن دخول مرحلة جديدة تُبنى على أسس متينة من العمل، والتخطيط، والشراكة بين الدولة والمجتمع.
وإذا استمرت هذه الوتيرة من الإنجاز، فإننا لا نشهد فقط تحديث نواذيبو، بل نؤسس لنموذج تنموي يمكن تعميمه على باقي المدن والمناطق، في إطار العدالة الجغرافية والاجتماعية التي تبنّاها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في برنامجه الطموح.
بقلم عبد الرحمن ولد أعمر